الاثنين، 3 مايو 2010

من آفات الدعاة

من آفات الدعاة





د/ كارم السيد غنيم



الإخلاص جوهر الأعمال الصالحة، وأس الطاعات وأساسها، وسبب لقبول الأقوال والأعمال، بل وقبول الدعاء واستجابته... وهو وإن كان واجبا، أو شرطا، لقبول أعمال المسلم وأقواله عند الله تعالى، فهو فرض عين على مَن يعدون أنفسهم من العاملين في حقل الدعوة ... وعلى قدر الإخلاص في العمل - قولا وفعلا- يكون القبول والأجر والثواب من الله تعالى، فإن خلت الأقوال والأفعال من هذا الركن الأساس، حبطت الأعمال، أقوالا وأفعالا، ولابد أنها ذاهبة هباء منثورا، ولا بارك الله فيها... ( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يُصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه) صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم .
إنه لمن المؤسف حقا أن ترى مَن يعد نفسه من رجال الدعوة، وقد ملأ الدنيا كلاما، لا يعدو أن يكون مراء أو رياء... يحب المديح والإطراء، بل ويكافئ عليه... يتشبث بأهداب الدنيا، ويعشق الظهور على الناس بكل الوسائل، ولا يطيق أن ينال غيره ثناء الناس، فإذا رأى هذا أكلت نفسُه بعضها بعضا... يضج ويغلي إذا لمع نجم من الدعاة، أو ظهر موهوب من الباحثين، أو اجتمع الناس لموعظة أحد البارزين من الواعظين... مصاب بعبادة الذات، مريض بكره الآخرين، سقيم بالحقد على غيره... لا يستطيع أن يعيش إلا إذا كان رأسا على غيره... ولا يهنأ له بال إذا رأى اثنين أو أكثر على وفاق، يجمعهم الحب في الله، وتقرّب فيما بينهم الألفة والمودة...
إنه لمن المؤسف حقا أن نرى مَن يعد نفسه من الدعاة، وهو يحقر كل قول، ويسخر من أي رأي، ويستهين بكل جهد، ويصغر كل اجتهاد، ولا يرى ولا يسمع إلا نفسه فقط ... إن الداعية المرائي يقترف جريمتين لا جريمة واحدة، فهو في جبين الدين سبّة متنقلة، وآفة جائحة، وإنما يتقهقر الدين في حلبة الحياة بمسالك هؤلاء الأدعياء، حتى وإن موّهوا على الناس بمعسول كلامهم، أو طلاوة حديثهم...
لا يمكن أن يكون داعية مخلصا حقا مَن يبحث بكل السبل للوصول إلى مقعد يتبوأه، فإذا ناله استأثر به وعضً عليه بنواجذه... لا يمكن أن يكون داعية مخلصا حقا مَن يتقرب لرجل إعلام أو يتزلف لرجل أعمال ليحقق بهما ذاته الشخصية أو مآربه الآنية... لا يمكن أن يكون داعية مخلصا حقا من يبغض المختلفين معه في الرأي، ويُضحّي بمن يقولون له في الأخطاء: لا، بل ويناصبهم العداء، ويسعى ضدهم بالوشاية عند أهل الحلّ والعقد... لا يمكن أن يكون داعية مخلصا حقا مَن تبلغ شهوة الكلام عنده ذروتها، واشتهاء الظهور على الناس منتهاه... لا يمكن أن يكون داعية مخلصا حقا مَن يقرّب منه المتملقين والمتسلقين والمنافقين والفارغين والمدّعين، ويُقصي عنه العلماء المتخصصين والراسخين والباحثين الصادقين المخلصين...
لا يمكن أن يكون داعية مخلصا حقا مَن ينتقد الآخرين للتشفي، أو يحمدهم للصداقة وجلب المنافع، المادية أو المعنوية... لا يمكن أن يكون داعية مخلصا حقا مَن يُجسّم الصغائر لفلان ويُغضي طرفه عن العظائم لغيره... تلك هى صفات الخبيث سيئ القصد، ذلك الذي خرج من عمله صفرا، بل ومُحمّلا بالأوزار...
إن الأدعياء في ميدان الدعوة والدين لمصيبة جسيمة، فإنهم خسروا أعمالهم عند ربهم لفقدانها الإخلاص، وإدخالهم الرياء والنفاق والتملق وخوف بطش الآخرين، في أقوالهم وأفعالهم، وإلى جانب ذلك فإنهم عوامل اهتزاز لصورة الدين، وأسباب لاضطراب حالته وضعف تأثيره...
هل يمكن أن يكون المسلم كذابا؟ الجواب بالطبع: لا، فقد نصًت الأحاديث النبوية الشريفة على أن المسلم لا يمكن أن يكون كذابا، حتى وإن وقع منه بعض الذنوب، أو سقط في بعض المعاصي، فكيف بمن يعدّون أنفسهم من الدعاة، وهم يكذبون ويتوهّمون أنهم لا يكذبون، فيدّعون لأنفسهم مؤهلات علمية لم يحصلوا عليها، أو يدّعون لأنفسهم شرف إسلام أعداد من غير المسلمين على أيديهم كذبا وزورا، وإن نُبهوا إلى خطورة هذا أو ذلك لم يأبهوا بالتنبيه ولم يلقوا له بالا.... وقد عايشنا نفرا منهم ونبهناهم، ولكن لا حياة لمن تنادي !!
وبعد، فإننا بحاجة ماسة إلى علماء أكفاء مقتدرين، وباحثين متضلعين، وعاكفين في محاريب العلم صابرين، ودعاة زاهدين محتسبين، لا مموهين ولا متشدقين ولا متفيهقين... نحن بحاجة ماسة إلى علماء فاقهين متجردين متواضعين، غير ساعين إلى شهرة، حتى وإن سعت إليهم... علماء يسعُون غيرهم، حتى وإن اختلفوا معهم... علماء يؤثرون على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة... علماء يقدّرون للكلمة قداستها فلا يفرطون في الكلام، ويعرفون للوشاية مخاطرها فلا يسعَون بها بين الناس، ويعرفون للكذب خطورته فيكفُون عنه... علماء لا يطلقون على أنفسهم ألقاب تعظيم أو تفخيم، حتى وإن تملقهم البعض بإطلاقها عليهم... علماء تخلوا عن العُجب والرياء والغرور والأثرة والحسد والحقد... علماء تحلوا بالصدق والإيثار والأمانة – في القول والعمل ... علماء حققوا التخلية وتحققوا بالتحلية...
ونختم بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: ( ... وإن الله يحب الأتقياء الأخفياء، الذين إذا غابوا لم يُفقدوا، وإذا حضروا لم يُعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، ينجون من كل غبراء مظلمة)... اللهم اجعلنا منهم، وانفعنا بهم، واحشرنا معهم ... آمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أرشيف المدونة الإلكترونية