الأحد، 7 فبراير 2010

الحسد .. تعددت رموزه ودلالاته حول العالم


الحسد .. تعددت رموزه ودلالاته حول العالم



«يا حاسدين الناس، مالكم ومال الناس».. هكذا شدا المطرب الشعبي الشهير، محمد عبد المطلب، في خمسينات القرن الماضي متسائلا ومحذرا من مغبة الحسد، لكن يبدو أن أحدا لم يجبه بعد.
حساسية أغنية عبد المطلب ورقتها تكمن في أنها عزفت على أحد أكثر المعتقدات الشعبية انتشارا بين الشعوب في مختلف أرجاء العالم، فعلى الرغم من تباين الألسن والثقافات والديانات من منطقة لأخرى، فإن البشرية تشترك في الخوف من الحسد، الذي يفسره بعض العلماء باعتباره مرضا يأتي، عادة من دون قصد، من شخص حاقد أو غيور. تماما مثلما حدث مع الجدة حين سألت حفيدتها التي لم تتجاوز السادسة عشرة من العمر: «هل قابلتك عائشة جارتنا؟».
ردت الحفيدة بالإيجاب، لتتولد على الفور قناعة لدى الجدة بأن الغمامة السوداء التي اشتكت حفيدتها من أنها غلفت عينيها ليست سوى نتاج إصابتها بـ«عين» الجارة، المعروفة في هذه القرية الواقعة شمال مصر بقدرتها الكبيرة على الحسد.
أسرعت الجدة إلى المشتبه فيها طالبة شيئا من «أثرها»، عبارة عن خصلة شعر، لعمل رُقية للحفيدة. حرقت الجدة خصلة شعر الجارة، وصنعت عروسا ورقية وأخذت تتلو أدعية وتعاويذ لصد العين، بينما تدس دبوسا في مختلف أجزاء الورقة.
وكانت المفاجأة تلاشي السحابة السوداء من عيني الحفيدة! بنبرة لا تخلو من الدهشة تذكر عفت عبد الرؤوف (65 عاما)، مديرة سابقة في وزارة التربية والتعليم، هذه الواقعة حول «العين» الحاسدة في مطلع شبابها، تقول: «أمي كانت تلبسني خرقا و(هلاهيل) قديمة حتى تداري على جمالي، وكانت ترفض أن ألبس قرطا من الذهب في أذني.. الحسد موجود، حتى في أمثالنا الشعبية: عين تفلق الحجر».
لكن أبرز ما يلفت الانتباه، اشتراك غالبية اللغات في الإشارة إلى الحسد باستخدام لفظ «عين»، حيث تتفق العربية والعبرية على استخدام عبارة «عين حارة»، وفي الإيطالية «مالوكيو»، والإسبانية «مالوخو»، والفارسية «بلا باند»، وجميعها تعني «العين الشريرة».
ولفظ «شريرة» قد لا يكون دقيقا هنا، لأن المرء قد يضر شخصا آخر أو شيئا عبر إطالة النظر إليه بقدر مفرط من الإعجاب أو الغيرة، من دون أن يعني ذلك أنه شرير بطبعه. إلا أنه يسود اعتقاد في بعض المناطق، مثل سيسيليا وجنوب إيطاليا، بأن بعض الأشخاص لديهم القدرة على تعمد حسد الآخرين.
الدكتور علي أبو ليلة، أستاذ علم الاجتماع في جامعة عين شمس، يرى أن كلا الرأيين يحمل الصواب، إلا أنه يؤكد أن «الحسد يدور حول رغبة المرء في تملك شيء لدى غيره، وهو شعور موجود لدى الناس جميعا ولا يعني بالضرورة كون المرء شريرا. ومع ذلك، يتمكن البعض من استغلاله عن عمد في إيذاء الآخرين.
شخصيا، أتذكر أن رجلا كان في قريتي يشتهر بالحسد، وكان البعض يستأجرونه للإضرار بخصومهم».
وما بين الظن والتخمين تراوغ لغة الحسد، ومن النادر أن تلقي شخصا ما يعترف بأنه «حسد» أو أضر بعينيه شخصا آخر، خوفا من التصاق تهمة الحسد به وما سيترتب على ذلك من نبذ الآخرين له، لكن مريم محمد، مترجمة، من القلائل الذين واتتهم الجرأة للاعتراف بتورطهم في الحسد، تقول مريم: «تعرضت لموقف خلال دراستي الثانوية لن أنساه أبدا.
كنت أتحدث إلى صديقة وكانت أشعة الشمس قوية ووجدتها تنعكس على عيني بلمعان قوي.
كانت صديقتي تمد يدها على طاولة أمامي وفي يديها ساعة ذهبية رائعة. استمر الحديث بيننا قرابة الساعة، وعجزت عن أحول نظري بعيدا عن الساعة التي كانت تشد انتباهي بلمعانها القوي.
الأدهى أنني كنت بين لحظة وأخرى أدير دفة الحديث باتجاه الساعة مبدية إعجابي الشديد بها.
وعندما هممنا بالانصراف، وبمجرد أن رفعت صديقتي يديها من على الطاولة، سقطت الساعة على الأرض!
وفجأة أصبحت في موقف لا أحسد عليه، ورمقتني صديقتي بنظرة لن أنساها أبدا، واشتدت حمرة وجهي من الخجل، وتلعثمت وأنا أعتذر لها من دون أن أدري عما أعتذر.
ووددت لو أقسمت لها أنني لم أقصد الحسد ولم تكن في نفسي أي مشاعر سيئة إطلاقا».
المثير أن مريم لا ترى هذا الموقف سيئا تماما، ومن باب «رُب ضارة نافعة» تضيف مبتسمة: «على الرغم من خجلي وشعوري بالذنب، فإنني ظلت بداخلي سعادة خفية لاكتشافي هذه القدرة غير الاعتيادية لدي، القدرة على التأثير عن بعد في الأشياء من حولي. شعرت وكأنني أصبحت (المرأة الخارقة)».
وعلى الرغم من الاعتقاد الشائع بأن الإيمان بالحسد حكر على الشعوب الشرقية، فإنه في الواقع منتشر على خريطة العالم شرقا وغربا، وإن كانت درجات الإيمان به متفاوتة.
وتتمثل أكثر المناطق التي يترسخ فيها الخوف من الحسد في الشرق الأوسط وحوض البحر المتوسط والمنطقة الإندوأوروبية وبحر إيجة، ودول أميركا الجنوبية الأكثر تأثرا بالغزو الإسباني.
تاريخيا، لم تكن هذه الفكرة معروفة في الأميركتين وجزر المحيط الهادي وآسيا ودول جنوب الصحراء الكبرى الأفريقية وأستراليا، تحديدا بين الشعوب الأصلية لهذه المناطق، حتى دخول الثقافة الأوروبية لها.
أما عن منشأ فكرة الحسد، فيعتقد بعض العلماء أنها نشأت في صحارى الشرق الأوسط، تحديدا في الحضارة السومرية القديمة، لذلك ينظر بعضهم إلى الحسد باعتباره فكرة ذات جذور سامية. وأيضا ظهرت فكرة الحسد في الحضارات الفرعونية واليونانية والرومانية.
يعقب دكتور أبو ليلة على هذه الفكرة قائلا: «إن شعوب منطقة الشرق الأوسط كانت ولا تزال الأكثر إيمانا بالغيبيات من بين شعوب العالم. وتنبغي الإشارة إلى أنه حتى يومنا هذا لا يزال العلم عاجزا عن تفسير بعض الأمور.
وعندما يقع حادث ما أو يمرض شخص على نحو فجائي، عادة ما يميل الناس إلى تفحص جمهور المحيطين به في الفترة الأخيرة لتحديد المشتبه فيه الذي سبب له الضرر.
في الواقع، هناك أشخاص بالفعل يساور المرء شعور بعدم الارتياح عند النظر مباشرة في أعينهم، وربما يكون أصحاب القدرة الكبيرة على الحسد، على هذه الشاكلة».
في ثقافة الحسد تختلط الخرافة بالعلم والفن، بل تنتفي الحدود بينها، ويزخر هذا التراث بالكثير من القص والأمثلة والشواهد، وكلها تؤكد على أن الحسد صفة إنسانية، قلما توجد بين الكائنات الأخرى. وفي الفلكلور السلافي قصة تدور حول رجل ابتلي بالحسد لدرجة دفعته إلى أن فقأ عينيه كي لا يؤذي أطفاله. وفي أوروبا خلال العصور الوسطى، شاع استخدام عبارات مثل «بارك الله فيه».
ولا يزال يجري استخدام مثل هذه العبارات في بعض الدول الأوروبية حتى اليوم. وبطبيعة الحال، يشيع استخدام هذه العبارات في الدول المسلمة.
ويعد الإفراط في الثناء على طفل رضيع من الأمور غير اللائقة في الكثير من الثقافات الشرقية وحوض البحر المتوسط.
لذلك استحوذ مفهوم الحسد على اهتمام كثير من العلماء في محاولة لوضع تفسير علمي له، ومن هؤلاء العلماء، البروفسور آلان دنديس، من جامعة كاليفورنيا، الذي ألف كتاب «الرطب والجاف: العين الشريرة» (Wet and Dry: The Evil Eye) .. يعتقد بروفسور دنديس أن فكرة الحسد تقوم على الاعتقاد بأن الماء يكافئ الحياة، والجفاف يكافئ الموت.
وبالتالي فإن «الشر» الذي تلحقه العين «الشريرة» بالضحية المحسودة يكمن في تجفيفها من المياه، خصوصا الأطفال أو الماشية أو النباتات أو الأمهات اللائي وضعن حديثا.
المثير أن اعتقادا يسود بين اليهود بأن الأسماك محصنة ضد الحسد لأنها مغطاة بالماء.
ويلاحظ آلان دنديس أن إيمان العامة من اليهود بـ«العين الحارة» دفعهم لاتباع ممارسات اجتماعية لافتة للانتباه. على سبيل المثال، عند إجراء إحصاء سكاني، الأمر الذي يمكن أن يعرض البعض للحسد بسبب الكشف عن حجم عائلاتهم الكبيرة، جرت العادة بأن يكتفي كل شخص بتقديم شيكل عن كل فرد في العائلة، بدلا من كتابة الأسماء وتعريض الأسرة لخطر الحسد.
وبالتالي يقوم العامل على وضع الإحصاء بعد عملات الشيكل التي بحوزته للتعرف على عدد أفراد الأسرة. إلى جانب اعتقادهم بأن التوقيت الأمثل للقيام بإحصاء سكاني هو شهر مارس (آذار) المرتبط بالأسماك وبرج الحوت.
أما سبل صد العين الحاسدة والحماية منها، فتتنوع بين الثقافات المختلفة، ولا يخلو بعضها من الطرافة.
قديما في مصر، لجأ الفراعنة إلى اللون الأزرق باعتباره رمز الخصوبة والحماية من الحسد، وحرصوا على ارتداء حلي كتمائم وتعاويذ، أشهرها «عين الإله حورس».
واليوم كثيرا ما تصادف على السيارات في شوارع مصر، خصوصا سيارات الأجرة والنقل، عبارات مثل «العين صابتني ورب العرش نجاني»، و«يا ناس يا شر كفاية قر».
ويحرص الكثيرون على ذبح أضحيات عند أي مناسبة سعيدة، ورسم أكف بدمائها على الجدران.
ومن الطرائف أن بعض الآباء والأمهات يلجأون إلى إطلاق أسماء غير محببة على أطفالهم كي يصدوا عنهم الحسد، مثل «مشحوت»، و«شحاتة»، و«حكشة».
ويحرص آخرون على تعليق سنابل قمح، أو حدوة حصان، أو خرزة، أو كف.. على مداخل منازلهم ومتاجرهم، وترتديها بعض النساء في صورة حلي.
وقد يصل الخوف من الحسد بالبعض حد رفع الكف في وجه المتحدث لدرء عينيه الحاسدة! وفي الدول العربية عامة، يشيع استخدام الكف الذي يحوي عينا لصد الحسد. كما يصرخ البعض أحيانا «امسكوا الخشب، عين الحسود فيها عود».
أما إذا كنت من أصحاب النفوس الرقيقة وساورك الضيق من المصري الذي يرفع كفه في وجهك ليحمي نفسه من شر عينيك، فعليك أخذ الحذر حين تسافر إلى اليونان، فمن الشائع أن يبصق اليونانيون باتجاه شخص يطري عليهم خوفا من الحسد.
وأحيانا يتكرر عدد مرات البصق بشكل مقزز! ويعد الحسد أحد أكثر المعتقدات الشعبية انتشارا بين اليونانيين، ويضرب بجذوره في أعماق الحضارة الهيلينية. وللحماية منه، يرتدي اليونانيون حليا تحمل صورة العين.
وبوجه عام، يعتقد الأتراك واليونانيون أن أصحاب العيون الزرقاء لديهم قدرة استثنائية على الحسد. ويعمد كثير من اليونانيين إلى الاحتفاظ بفص من الثوم في ملابسهم لصد العين.
في تركيا أينما وجهت عينيك يصادفك الكثير من العيون الزرقاء المحدقة بك. ويشيع في الثقافة التركية تقديم هدايا على صورة عين زرقاء أو تعليقها في السيارات أو المنازل أو المكاتب لصد الحسد، علاوة على ارتدائها كحلي.
وكذلك في إيران وأفغانستان وباكستان وطاجاكستان، فعندما يعود طفل بعد فترة غياب بين غرباء، يلجأ والداه إلى إشعال بخور وإحاطة الطفل بها وتلاوة أدعية لصد العين.
أما في الصين فيتمثل علاج الحسد في مرآة «با كوا»، وهي مرآة سداسية الجوانب توضع أمام الأبواب أو النوافذ لرد طاقة العين السلبية على صاحبها.
وفي نيبال يجري ارتداء «عين بوذا» للحماية من الحسد. ويستخدم الهنود، وكذلك شعوب شرق أوروبا، في صد الـ«عين» اللون الأحمر حيث، يجري لف أشرطة من اللون الأحمر حول الرسغ أو الرقبة لحماية الأطفال.
وحتى في الولايات المتحدة في الوقت الحاضر، يجري ارتداء أعين أشبه بالعين الحقيقية للحماية من الحسد.
ومن بين طرق صد العين الحاسدة، يكاد البصق على الأرض، أو تحت صدر الملابس، قاسما إنسانيا مشتركا، ففي بعض الدول، عندما يثني شخص ما على طفل أو حيوان أو شجرة فاكهة، يعمد إلى البصق في أعقاب الثناء أمام الأم أو صاحب الحيوان أو الشجرة كي يبرئ نفسه من تهمة الحسد.
في دول أخرى، يعقب الشخص الثناء على طفل ما بالمسارعة إلى لمسه «كي يحمل العين بعيدا عنه».
وإذا لم يلتزم شخص بهذا البروتوكول، تلجأ الأم إلى بعض الأدعية لصد العين أو الشروع في الحديث عن نحو ناقد وسلبي عن الطفل كي تدرأ عنه الحسد. وفي بعض الثقافات يجري تلطيخ أي طفل، يحمله ذووه إلى مكان عام، بالوحل.
إلا أن دكتور أبو ليلة يرى إمكانية استغلال الحسد إيجابيا، وذلك بتحويل «شعور الحسد إلى شعور إيجابي، من خلال التسامي به وتحويله إلى حافز للتقدم».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أرشيف المدونة الإلكترونية